سورة المائدة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} وهذا أيضاً متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحل لهم، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه.
واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم، ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك، بل إنما يقولون ماذا أحل لنا، بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيان لكيفية الواقعة.
المسألة الثانية: قال الواحدي: {مَاذَا} إن جعلته اسماً واحداً فهو رفع بالابتداء، وخبره {أَحَلَّ} وإن شئت جعلت {مَا} وحدها اسماً، ويكون خبرها {ذَا} و{أَحَلَّ} من صلة {ذَا} لأنه بمعنى: ما الذي أحل لهم.
المسألة الثالثة: أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال، وأكد هذه الآية بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطيبات مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] وبقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث} [الأعراف: 157].
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضاً طيباً تشبيهاً بما هو مستلذ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات، وإلا لصار تقدير الآية: قل أحل لكم المحلللات، ومعلوم أن هذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى، فصار التقدير: أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى.
ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الارض جَمِيعاً} [البقرة: 29] فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال: {وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث} [الأعراف: 157] ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلاً كبيراً، وقانون مرجوعاً إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة، منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح.
حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب، والعلم به ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً لقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح، وعند أبي حنيفة حرام، حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ، فوجب أن يحل لقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ويدل أيضاً على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} استثنى المذكاة بما بيّن اللبة والصدر، وقد حصل ذلك في الخيل، فوجب أن تكون مذكاة، فوجب أن تحل لعموم قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضاً حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسياً فهي مذكاة، وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس حزءاً من ماهية الذكاة، وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكناً، فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك، وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} ومنها أن لحم الحمر الأهلية مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين، إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
ثم قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: الأول: أن فيها إضماراً، والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه، وهو قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
الثاني: أن يقال إن قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ} ابتداء كلام، وخبره هو قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار.
المسألة الثانية: في الجوارح قولان:
أحدهما: أنها الكواسب من الطير والسباع، واحدها جارحة، سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب، قال تعالى: {الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] أي اكتسبوا، وقال: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] أي ما كسبتم.
والثاني: أن الجوارح هي التي تجرح، وقالوا: أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل.
المسألة الثالثة: نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي، أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله، وتمسكوا بقوله تعالى: {مُكَلّبِينَ} قَالُواْ: لأن التخصيص يدل على كون هذا الحكم مخصوصاً به، وزعم الجمهور أن قوله: {وما علمتم من الجوارح} يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به، كالفهد والسباع من الطير: مثل الشاهين والباشق والعقاب، قال الليث: سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع، فقال: هذه كلها جوارح. وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى: {مُكَلّبِينَ} من وجوه:
الأول: أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها، وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه.
الثاني: أن كل سبع فإنه يسمى كلباً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللّهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد».
الثالث: أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال فلان: كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه.
والرابع: هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره، بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز، وهو غير مذكور في الآية والله أعلم.
المسألة الرابعة: دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة، لأنه تعالى قال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} وقال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل» قال الشافعي رحمه الله: والكلب لا يصير معلماً إلاّ عند أمور، وهي إذا أرسل استرسل، وإذا أخذ حبس ولا يأكل، وإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر رحمه الله فيه حداً معيناً، بل قال: أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من النص أو الاجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات.
وقال الحسن البصري رحمه الله: يصير معلماً بمرة واحدة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلماً بتكرير ذلك مرتين، وهو قول أحمد رحمه الله، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه يصير معلماً بثلاث مرات.
المسألة الخامسة: الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد، فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم، ومؤدب صاحب التأديب.
قال صاحب الكشاف وقرئ مكلبين بالتخفيف، وأفعل وفعل يشتركان كثيراً.
المسألة السادسة: انتصاب مكلبين على الحال من {عَلِمْتُمُ}.
فإن قيل: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟
قلنا: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرباً فيه موصوفاً بالتكليب {وتعلمونهن} حال ثانية أو استئناف، والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم.
ثم قال تعالى: {الله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أنه إذا كان الكلب معلماً ثم صاد صيداً وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتاً فهو حلال، وجرح الجارحة كالذبح، وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة. وكذا في السهم والرمح، أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم: لا يجوز أكله لأنه ميتة.
وقال آخرون: يحل لدخوله تحت قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهذا كله إذا لم يأكل، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء، فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل، وهو أظهر أقوال الشافعي، قالوا: لأنه أمسك الصيد على نفسه، والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه، ويدل عليه أيضاً ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي ابن حاتم:


{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
قوله تعالى: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}.
اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات، وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم، ثم أعاد ذكره في هذه الآية، والغرض من ذكره أنه قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النعمة في كل ما يتعلق بالدين، فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات، والغرض من الاعادة رعاية هذه النكتة.
ثم قال تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} وفي المراد بالطعام هاهنا وجوه ثلاثة: الأول: أنه الذبائح، يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاس نسائهم، وعن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلاّ شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي رحمه الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به، وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه الله.
والوجه الثاني: أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة، وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية، والثالث: أن المراد جميع المطعومات، والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه:
أحدها: أن الذبائح هي التي تصير طعاماً بفعل الذابح، فحمل قوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب} على الذبائح أولى.
وثانيها: أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم، فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة.
وثالثها: ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح، فحمل هذه الآية على الذبائح أولى.
ثم قال تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} أي ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا، وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين.
ثم قال تعالى: {والمحصنات مِنَ المؤمنات} وفي المحصنات قولان:
أحدهما: أنها الحرائر، والثاني: أنها العفائف، وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة، والقول الأول أولى لوجوه:
أحدها: أنه تعالى قال بعد هذه الآية {إذا آتيتموهن أجورهن} ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها.
وثانيها: أنا بينا في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين: عدم طول الحرة، وحصول الخوف من العنت.
وثالثها: أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهراً على تحريم نكاح الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم، أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات.
ورابعها: أنا بينا أن اشتقاق الاحصان من التحصن، ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتاً منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلاّ أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة، فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها.
ثم قال تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من الليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من قولها: إن ربها عيسى، ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بوجوه:
الأول: أن المراد الذين آمنوا منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا؟ فبيّن تعالى بهذه الآية جواز ذلك، والثاني: روي عن عطاء أنه قال: إنما رخص الله تعالى في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة، وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة، والثالث: الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار، كقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُم} [آل عمران: 118] ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها، وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة.
الرابع: قوله تعالى في خاتمة هذه الآية {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاخرة مِنَ الخاسرين} وهذا من أعظم المنفرات عن التزوج بالكافرة، فلو كان المراد بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز.
المسألة الثانية: إن قلنا: المراد بالمحصنات: الحرائر، لم تدخل الأمة الكتابية تحت الآية، وإن قلنا: المراد بالمحصنات: العفائف دخلت، وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة فعند الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكاتبية. قال: لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان: الكفر والرق، وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز، وتمسك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف وقد سبق الكلام فيه.
المسألة الثالثة: قال سعيد بن المسيب والحسن {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يدخل فيه الذميات والحربيات، فيجوز التزوج بكلهن، وأكثر الفقهاء على أن ذلك مخصوص بالذمية فقط، وهذا قول ابن عباس، فإنه قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهن من لا يحل لنا، وقرأ {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} إلى قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} [التوبة: 29] فمن أعطى الجزية حل، ومن لم يعط لم يحل.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وروي عن ابن المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس، وقال أبو ثور: وإن أمرة بذلك في الصحة فلا بأس.
المسألة الخامسة: قال الكثير من الفقهاء: إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن، قالوا: والدليل عليه قوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} فقوله: {مِن قَبْلِكُمْ} يدل على أن من دان الكتاب بعد نزول الفرقان خرج عن حكم الكتاب.
ثم قال تعالى: {إذا أتيتموهن أجورهن} وتقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبها وأن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني، وتسمية المهر بالأجر يدل على أن الصداق لا يتقدر، كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات.
ثم قال تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} قال الشعبي: الزنا ضربان: السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان، واتخاذ الخدن وهو الزنا في السر، والله تعالى حرّمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان وهو التزوج.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أن المقصود منه الترغيب فيما تقدم من التكاليف والأحكام، يعني ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة، والثاني: قال القفال: المعنى أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلاّ أن ذلك لا يفرق بينهم وبين المشركين في أحوال الآخرة وفي الثواب والعقاب، بل كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة ألبتة.
المسألة الثانية: قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فيه إشكال، وهو أن الكفر إنما يعقل بالله ورسوله، فأما الكفر بالإيمان فهو محال، فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه:
الأول: قال ابن عباس ومجاهد {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي ومن يكفر بالله، إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان، ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز، والثاني: قال الكلبي {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فجعل كلمة التوحيد إيماناً، فإن الإيمان بها لما كان واجباً كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع، وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور، والثالث: قال قتادة: إن ناساً من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا!فأنزل الله تعالى هذه الآية أي، ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا، فسمى القرآن إيماناً لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لابد منه في الإيمان.
المسألة الثالثة: القائلون بالاحباط قالوا: المراد بقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثواب إيمانه، والذين ينكرون القول بالاحباط قالوا: معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع؛ فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان، فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها، فهذا هو المراد من قوله: {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الاخرة مِنَ الخاسرين} مشروط بشرط غير مذكور في الآية، وهو أن يموت على ذلك الكفر؛ إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين، والدليل على أنه لابد من هذا الشرط قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] الآية.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
ثم قال تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين}.
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله: {أَوْفُواْ بالعقود} طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولاً بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلاّ بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أعلم أن المراد بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} ليس نفس القيام، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع.
الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور.
الثاني: قوله تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34] وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب، يقال: فلان قائم بذلك الأمر، قال تعالى: {قَائِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] وليس المراد منه ألبتة الانتصاب، بل المراد كونه مريداً لذلك الفعل متهيئاً له مستعداً لإدخاله في الوجود، فكذا هاهنا قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها.
المسألة الثانية: قال قوم: الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، وليس ذلك تكليفاً مستقلاً بنفسه، واحتجوا بأن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا} جملة شرطية، الشرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط، فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة.
وقال آخرون: المقصود من الوضوء الطهارة، والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام:
بني الدين على النظافة وقال: أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة، وقال أكثر الفقهاء: لا يجب. احتج داود بهذه الآية من وجهين: لأول: أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك، فإن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} إما أن يكون المراد منه قياماً واحداً وصلاة واحدة، فيكون المراد منه الخصوص، أو يكون المراد منه العموم، والأول باطل لوجوه:
الأول: أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية، وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة، وذلك خلاف الأصل.
وثانيها: أنه يصح إدخال الاستثناء عليه، ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل، وذلك يوجب العموم.
وثالثها: أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد، وإذا بطل هذا وجب حمله على المعموم عند كل قيام إلى الصلاة، إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد لله تعالى إلى سائر الدلائل، فتصير هذه الآية وحدها مجملة، وقد بينا أنه خلاف الأصل، فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة.
الوجه الثاني: أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ، وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود، والاتشغال بالخدمة يجب أن يكون مقروناً بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم، ومن وجوه التعظيم كونه آتياً بالخدمة حال كونه في غاية النظافة، ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة، ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف المناسب، وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه، فيلزم وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة. ثم قال داود: ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، أو يقال: إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه، قال: أما القراءة الشاذة فمردودة قطعاً، لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن، وهو أن يقال: إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل، وأيضاً فلأن معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى، ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها، فلو كان ذلك قرآناً لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ، وأما التمسك بخبر الواحد فقال: هذا يقتضي نسخ القررن بالخبر، وذلك لا يجوز.
قال الفقهاء: إن كلمة {إِذَا} لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت، ثم لو دخلت ثانياً لم تطلق ثانياً، وذلك يدل على أن كلمة {إِذَا} لا تفيد العموم، وأيضاً أن السيد إذ قال لعبده: إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا، فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة.
وأعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم: فلعله يلتزم العموم، وأيضاً فله أن يقول: إنا قد دللنا على أن كلمة {إِذَا} في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير، وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم، فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير، وأما الفقهاء فإنهم استدلوا على صحة قولهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد.
قال عمر رضي الله عنه: فقلت له في ذلك فقال: عمداً فعلت ذلك يا عمر.
أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، وأيضاً فهذا الخبر يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظباً على تجديد الوضوء لكل صلاة، وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى: {فاتبعوه} [سبأ: 20] بقي أن يقال: قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح، فنقول: لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه:
الأول: هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب، والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها، لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه، وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها.
والثاني: أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
الثالث: أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.
والرابع: أن دلالة القرآن على قولنا لفظية، ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية، والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية، لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس، فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم.
والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال: لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء، لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ} [النساء: 43] أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء، وذلك يدل على كون كل واحد منهما سبباً لوجوب الطهارة عند وجود الماء، وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة، وذلك يدل على ما قلناه.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن هذه الآية هل تدل على كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة؟ والأصح أنها تدل عليه من وجهين:
الأول: أنه تعالى علق فعل الصلاة على الطهور بالماء، ثم بيّن أنه متى عدم لا تصح إلا بالتيمم، ولو لم يكن شرطاً لما صح ذلك.
الثاني: أنه تعالى إنما أمر بالصلاة مع الوضوء، فالآتي بالصلاة بدون الوضوء تارك للمأمور به، وتارك المأمور به يستحق العقاب، ولا معنى للبقاء في عهدة التكليف إلا ذلك، فإذا ثبت هذا ظهر كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بمقتضى هذه الآية.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: النيّة شرط لصحة الوضوء والغسل.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس كذلك.
وأعلم أن كل واحد منهما يستدل لذلك بظاهر هذه الآية.
أما الشافعي رحمه الله فإنه قال: الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً فالوضوء يجب أن يكون منوياً، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون شرطاً لأنه لا قائل بالفرق، وإنما قلنا: إن الوضوء مأمور به لقوله: {اغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} [المائدة: 6] ولا شك أن قوله: {فاغسلوا} {وامسحوا} أمر، وإنما قلنا: إن كل مأمور به أن يكون منوياً لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] واللام في قوله: {لِيَعْبُدُواْ} ظاهر للتعليل، لكن تعليل أحكام الله تعالى محال، فوجب حمله على الباء لما عرف من جواز إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض، فيصير التقدير: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين، والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، ومتى كانت النية الخالصة معتبرة كان أصل النية معتبراً. وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان، فثبت بما ذكرنا أن كل وضوء مأمور به، وثبت أن كل مأمور به يجب أن يكون منوياً فلزم القطع بأن كل وضوء يجب أن يكون منوياً أقصى ما في الباب أن قولنا: كل مأمور به يجب أن يكون منوياً مخصوص في بعض الصور، لكنا إنما أثبتنا هده المقدمة بعموم النص، والعام حجة في غير محل التخصيص.
وأما أبو حنيفة رحمه الله فإنه احتج بهذه الآية على أن النية ليست شرطاً لصحة الوضوء، فقال: إنه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس لا يجوز.
وجوابنا: أنا بينا أنه إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن.
المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: الترتيب شرط لصحة الوضوء، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: ليس كذلك، احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على قوله من وجوه:
الأول: أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب، وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق.
فإن قالوا: فاء التعقيب إنما دخلت في جملة هذه الأعمال فجرى الكلام مجرى أن يقال: إذا قمتم إلى الصلاة فأتوا بمجموع هذه الأفعال.
قلنا: فاء التعقيب إنما دخلت على الوجه لأن هذه الفاء ملتصقة بذكر الوجه، ثم إن هذه الفاء بواسطة دخولها على الوجه دخلت على سائر الأعمال، وعلى هذا دخول الفاء في غسل الوجه أصل، ودخولها على مجموع هذه الأفعال تبع لدخولها على غسل الوجه، ولا منافاة بين إيجاب تقديم غسل الوجه وبين إيجاب مجموع هذه الأفعال، فنحن اعتبرنا دلالة هذه الفاء في الأصل والتبع، وأنتم ألغيتموها في الأصل واعتبرتموها في التبع، فكان قولنا أولى.
والوجه الثاني: أن نقول: وقعت البداءة في الذكر بالوجه، فوجب أن تقع البداءة به في العمل لقوله: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ابدؤا بما بدأ الله».
وهذا الخبر وإن ورد في قصة الصفا والمروة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أقصى ما في الباب أنه مخصوص في بعض الصور لكن العام حجة في غير محل التخصيص، والثالث: أنه تعالى ذكر هذه الأعضاء لا على وفق الترتيب المعتبر في الحس، ولا على وفق الترتيب المعتبر في الشرع، وذلك يدل على أن الترتيب واجب.
بيان المقدمة الأولى أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلاً إلى القدم، أو من القدم صاعداً إلى الرأس، والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك، وأما الترتيب المعتبر في الشرع فهو أن يجمع بين الأعضاء المغسولة، ويفرد الممسوحة عنها، والآية ليست كذلك، فإنه تعالى أدرج الممسوح في أثناء المغسولات، إذ ثبت هذا فنقول: هذا يدل على أن الترتيب واجب، والدليل عليه أن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح، فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، ترك العمل به فيما إذا صار ذلك محتملاً للتنبيه على أن ذلك الترتيب واجب، فيبقى في غير هذه الصورة على وفق الأصل.
الرابع: أن إيجاب الوضوء غير معقول المعنى، وذلك يقتضي وجوب الإتيان به على الوجه الذي ورد في النص، بيان المقام الأول من وجوه:
أحدها: أن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب من موضع آخر وهو خلاف المعقول.
وثانيها: أن أعضاء المحدث طاهرة لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وكلمة إنما للحصر، وقوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً» وتطهير الطاهر محال.
وثالثها: أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء، ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة.
ورابعها: أن الشرع أقام المسح على الخفين مقام الغسل، ومعلوم أنه لا يفيد ألبته في نفس العضو نظافه.
وخامسها: أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة، وماء الورد لا يفيدها، فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى، وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص، لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبراً إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها، فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة، بل هاهنا أولى، لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فهاهنا أولى.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال: الواو لا توجب الترتيب، فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب، فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص، وهو نسخ وهو غير جائز.
وجوابنا: أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم.
المسألة السابعة: موالاة أفعال الوضوء ليست شرطاً لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال مالك رحمه الله: إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال، ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة، وهو قوله: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} فثبت أن الوضوء بدون الموالاة يفيد حصول الطهارة، فوجب أن نقول بجواز الصلاة بها لقوله عليه الصلاة والسلام: «مفتاح الصلاة الطهارة».
المسألة الثامنة: قال أبو حنيفة رحمه الله: الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء، وقال الشافعي رحمه الله لا ينقض، احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال: ظاهرها يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة على ما بينا ذلك فيما تقدم، ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولاً به عند خروج الخارج النجس، والشافعي رحمه الله عول على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلّى ولم يزد على غسل أثر محاجمه.
المسألة التاسعة: قال مالك رحمه الله: لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة، وقال ربيعة: لا وضوء أيضاً في دم الاستحضانة، لنا التمسك بعموم الآية.
المسألة العاشرة: قال أبو حنيفة رحمه الله: القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء، وقال الباقون: لا تنقض، ولأبي حنيفة رحمه الله التمسك بعموم الآية على ما قررناه.
المسألة الحادية عشرة: قال الشافعي رحمه الله: لمس المرأة ينقض الوضوء، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينقضه، للشافعي أن يتمسك بعموم الآية، وهذا العموم متأكد بظاهر قوله تعالى: {أَوْ لامستم النساء} وحجة الخصم خبر واحد، أو قياس، فلا يصير معارضاً له.
المسألة الثانية عشرة: مس الفرج ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه، للشافعي رحمه الله أن يتمسك بعموم الآية، وهذا العموم متأكد بقوله عليه الصلاة والسلام: «من مسّ ذكره فليتوضأ».
والخبر الذي يتمسك به الخصم على خلاف عموم الآية فكان الترجيح معنا.
المسألة الثالثة عشرة: لو كان على بدنه أو وجهه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة عن الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوؤه؟ ما رأيت هذه المسألة موضوعة في كتب أصحابنا. والذي أقوله: إنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله: {فاغسلوا} وقد أتى به فيخرج عن العهدة لأنه عند احتياجه إلى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه، كذا هاهنا. وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: «لكل امرئ ما نوى».
وهذا الإنسان نوى فيجب أن يحصل له المنوي والله أعلم.
المسألة الرابعة عشر: لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أم لا؟ يمكن أن يقال: لا يصح، لأنه أمر بالغسل، والغسل عمل وهو لم يأت بالعمل، ويمكن أن يقال: يصح لأن الغسل عبارة عن الفعل المفضي إلى الإنغسال، والوقوف تحت الميزاب يفضي إلى الإنغسال فكان ذلك الوقوف غسلاً.
المسألة الخامسة عشرة: إذا غسل هذه الأعضاء ثم بعد ذلك تقشرت الجلدة عنها فلا شك أن ما ظهر تحت الجلدة غير مغسول، إنما المغسول هو تلك الجلدة وقد تقلصت وسقطت.
المسألة السادسة عشرة: الغسل عبارة عن إمرار الماء على العضو، فلو رطب هذه الأعضاء، ولكن ما سال الماء عليها لم يكف، لأن الله تعالى أمر بإمرار الماء على العضو، وفي غسل الجنابة احتمال أن يكفي ذلك، والفرق أن المأمور به في الوضوء الغسل، وذلك لا يحصل إلا عند إمرار الماء، وفي الجناية المأمور به الطهر، وهو قوله: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} وذلك حاصل بمجرد الترطيب.
المسألة السابعة عشرة: لو أخذ الثلج وأمره على وجهه، فإن كان الهواء حاراً يذيب الثلج ويسيل جاز، وإن كان بخلافه لم يجز خلافاً لمالك والأوزاعي. لنا أن قوله: {فاغسلوا} يقتضي كونه مأموراً بالغسل، وهذا لا يسمى غسلاً، فوجب أن لا يجزئ.
المسألة الثامنة عشرة: التثليث في أعمال الوضوء سنة لا واجب، إنما الواجب هو المرة الواحدة، والدليل عليه أنه تعالى أمر بالغسل فقال: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وماهية الغسل تدخل في الوجود بالمرة الواحدة، ثم إنه تعالى رتب على هذا القدر حصول الطهارة فقال: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} فثبت أن المرة الواحدة كافية في صحة الوضوء ثم تأكد هذا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.
المسألة التاسعة عشرة: السواك سنة، وقال داود: واجب ولكن تركه لا يقدح في الصلاة. لنا أن السواك غير مذكور في الآية، ثم حكم بحصول الطهارة بقوله: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} وإذا حصلت الطهارة حصل جواز الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام: «مفتاح الصلاة الطهارة».
المسألة العشرون: التسمية في أول الوضوء سنة، وقال أحمد وإسحاق: واجبة، وإن تركها عامداً بطلت الطهارة، لنا أن التسمية غير مذكورة في الآية، ثم حكم بحصول الطهارة وقد سبق تقرير هذه الدلالة، ثم تأكد هذا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه».
المسألة الحادية والعشرون: قال بعض الفقهاء: تقديم غسل اليدين على الوضوء واجب، وعندنا أنه سنة وليس بواجب، والاستدلال بالآية كما قررناه في السواك وفي التسمية.
المسألة الثانية والعشرون: حد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل كل ذلك.
المسألة الثالثة والعشرون: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يجب إيصال الماء إلى داخل العين، وقال الباقون لا يجب، حجة ابن عباس أنه وجب غسل كل الوجه لقوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} والعين جزء من الوجه، فوجب أن يجب غسله.
حجة الفقهاء أنه تعالى قال في آخر الآية {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} ولا شك أن في إدخال لماء في العين حرجاً والله أعلم.
المسألة الرابعة والعشرون: المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء والغسل عند الشافعي رحمه الله، وعند أحمد وإسحاق رحمهما الله واجبان فيهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب في الغسل، غير واجب في الوضوء. لنا أنه تعالى أوجب غسل الوجه، والوجه هو الذي يكون مواجهاً وداخل الأنف والفم غير مواجه فلا يكون من الوجه.
إذ ثبت هذا فنقول: إيصال الماء إلى الأعضاء الأربعة يفيد الطهارة لقوله: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} والطهارة تفيد جواز الصلاة كما بيناه.
المسألة الخامسة والعشرون: غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي رحمهم الله، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجب لنا. أنه من الوجه، والوجه يجب غسله بالآية، ولأنا أجمعنا على أنه يجب غسله قبل نبات الشعر، فحيلولة الشعر بينه وبين الوجه لا تسقط كالجبهة لما وجب غسلها قبل نبات شعر الحاجب وجب أيضاً بعده.
المسألة السادسة والعشرون: قال الشافعي رحمه الله: يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجب. لنا أن قوله تعالى: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} يوجب غسل الوجه، والوجه اسم للجلدة الممتدة من الجبهة إلى الذقن، ترك العمل به عند كثافة اللحية عملاً بقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وعند خفة اللحية لم يحصل هذا الحرج، فكانت الآية دالة على وجوب غسله.
المسألة السابعة والعشرون: هل يجب إمرار الماء على ما نزل من اللحية عن حد الوجه وعلى الخارج منها إلى الأذنين عرضاً؟ للشافعي رحمه الله فيه قولان:
أحدهما: أنه يجب.
والثاني: أنه لا يجب، وهو قول مالك وأبي حنيفة والمزني.
حجة الشافعي رحمه الله أنا توافقنا على أن في اللحية الكثيفة لا يجب إيصال الماء إلى منابت الشعور وهي الجلد، وإنما أسقطنا هذا التكليف لأنا أقمنا ظاهر اللحية مقام جلدة الوجه في كونه وجهاً، وإذا كان ظاهر اللحية يسمى وجهاً والوجه يجب غسله بالتمام بدليل قوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} لزم بحكم هذا الدليل إيصال الماء إلى ظاهر جميع اللحية.
المسألة الثامنة والعشرون: لو نبت للمرأة لحية يجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت تلك اللحية كثيفة، وذلك لأن ظاهر الآية يدل على وجوب غسل الوجه، والوجه عبارة عن الجلدة الممتدة من مبدأ الجبهة إلى منتهى الذقن، تركنا العمل به في حق الرجال دفعاً للحرج، ولحية المرأة نادرة فتبقى على الأصل.
واعلم أنه يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع: العنفقة، والحاجبان، والشاربان، والعذاران، وأهداب العين، لأن قوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} يدل على وجوب غسل كل جلد الوجه، ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعاً للحرج، وهذه الشعور خفيفة فلا حرج في إيصال الماء إلى الجلدة، فوجب أن تبقى على الأصل.
المسألة التاسعة والعشرون: قال الشعبي: ما أقبل من الأذن معدود من الوجه فيجب غسله مع الوجه، وما أدبر منه فهو معدود من الرأس فيمسح، وعندنا الأذن ليست البتة من الوجه إذ الوجه ما به المواجهة، والأذن ليست كذلك.
المسألة الثلاثون: قال الجمهور: غسل اليدين إلى المرفقين واجب معهما، وقال مالك وزفر رحمهما الله: لا يجب غسل المرفقين، وهذا الخلاف حاصل أيضاً في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} حجة زفر أن كلمة {إلى} لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجاً عنه كما في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} [البقرة: 187] فوجب أن لا يجب غسل المرفقين.
والجواب من وجهين:
الأول: أن حد الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس، وهاهنا يكون الحد خارجاً عن المحدود، وهو كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} فإن النهار منفصل عن الليل انفصالاً محسوساً لأن انفصال النور عن الظلمة محسوس، وقد لا يكون كذلك كقولك: بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس.
إذا عرفت هذا فنقول: لا شك أن امتياز المرفق عن الساعد ليس له مفصل معين، وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر، فوجب القول بإيجاب غسل كل المرفق.
الوجه الثاني من الجواب: سلمنا أن المرفق لا يجب غسله، لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم، فإنه هو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله، وهذا الجواب اختيار الزجاج والله أعلم.
المسألة الحادية والثلاثون: الرجل إن كان أقطع، فإن كان أقطع مما دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من المرفق لأن قوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} يقتضي وجوب غسل اليدين إلى المرفقين، فإذا سقط بعضه بالقطع وجب غسل الباقي بحكم الآية، وأما إن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلاً، وأما إذا كان أقطع من المرفق قال الشافعي رحمه الله: يجب إمساس الماء لطرف العظم، وذلك لأن غسل المرفق لما كان واجباً والمرفق عبارة عن ملتقى العظمين، فإذا وجب إمساس الماء لملتقى العظمين وجب إمساس الماء لطرف العظم الثاني لا محالة.
المسألة الثانية والثلاثون: تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب، وقال أحمد: هو واجب. لنا أنه تعالى ذكر الأيدي والأرجل ولم يذكر فيه تقديم اليمنى على اليسرى، وذلك يدل على أن الواجب هو غسل اليدين بأي صفة كان والله أعلم.
المسألة الثالثة والثلاثون: السنة أن يصب الماء على الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرفق، فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف، فقال بعضهم: هذا لا يجوز لأنه تعالى قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} فجعل المرافق غاية الغسل، فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية فوجب أن لا يجوز.
وقال جمهور الفقهاء: أنه لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركاً للسنة.
المسألة الرابعة والثلاثون: لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} كما أنه لو نبت على الكف أصبع زائدة فإنه يجب غسلها بحكم هذه الآية.
المسألة الخامسة والثلاثون: قوله تعالى: {إِلَى المرافق} يقتضي تحديد الأمر لا تحديد المأمور به، يعني أن قوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُ

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8